من يحتضن السمراء ؟ فمنذ فجر التاريخ ونعرف عنها أنها لم تهنأ العيش بذاتيتها وخصوصياتها وتفيد أبنائها من ثرواتها التي تكفى أبناء البشرية في العالم ويزيد فهى دائما خاضعة قانعة لمن يستطيع السيطرة عليها فتصبح فريسة لكل حيوان مفترس أو قوة هائجة مستعمرة تبسط نفوذها وسلطانها فالمستعمر نجح في أن يجعل من كوكب الأرض وأراضيه " ممتلكات " ومن اليسير عليك عزيزى القارئ أن تتعرف عليها فهى مصبوغة في الخرائط الجغرافية بمختلف الألوان من حمراء وزرقاء وخضراء : هذه ممتلكات بريطانية ، وتلك فرنسية ، والأخرى بلجيكية ولم تكن هذه الممتلكات قطعا صغيرة أو أقطار محدودة المساحة بل كثيرا ما تشمل قارة من أكبر القارات وأضخمها مثل القارة السمراء " أفريقيا " التي ليس فيها قطرا واحدا ولا شبرا واحدا من الأرض لم يرزح هو وسكانه في وقت من الأوقات تحت نير الحكم والنفوذ الأجنبي في مختلف صوره وأشكاله وتمكن المستعمر من أن يجعل من عالمنا منقسم إلى قسمين : مالك ومملوك والمالكون فئة صغيرة من سكان هذا الكوكب والملوكون أقطار واسعة فسيحة وشعوب كبيرة العدد ، متنوعة والأجناس والألوان فالظواهر السياسية في عصرنا الحديث هذا نستطيع أن نصفها بعبارة الإستعباد السياسى فالعلاقة بين الطرفين لا يمكن وصفها إلا بأنها كعلاقة الحر بالعبد والسيد بالمسود فاالمالك يتمتع بحريته ويسير وفق إرادته والمملوك مسير لا مخير ليس له حياته إلا بمقدار يسمح به سيده المالك المهمين ، ويخبرنا التاريخ بأن هناك ملوك حصلوا على ممتلكات بواسطة البيع والشراء ، كما إشترت أمريكا ألسكا من روسيا والفلبين من أسبانيا وقد يستولى عليها بالفتح والغزو مثلما فعلت إيطاليا وإستولت على إثيوبيا وليبيا ، أو بالخديعة أو بمزيج من التمويه والغزو كما فعلت بريطانيا في إحتلال مصر وذلك قديما ولكن هناك فروقا واضحة بين الأستعمار القديم والحديث فالاستعمار الحديث اليوم في ملابساته التي نشاهدها اليوم هو إثم من أكبر الآثام وإجرام بشرى ليس له نظير في التاريخ كله وكما قال شاكسبير " الأرض مسرحا والناس على ظهرها فرقة تمثيل وهؤلاء الممثلون ضروب وشكول وألوان منهم الجليل والضئيل ومنهم القصير والطويل والبدين والنحيل ، التافه الذى لا يؤدى إلا عملا تافها مثله ، والقوى الجبار الذى يحتل صدر المسرح ، ويروح ويغدو في زهو و كبرياء ، ومنهم القسيم والوسيم الحسن البزة والشارة ، المدجج بالسلاح من قمة رأسه إلى اخمص قدمه ومنهم من يسعى في أسمال باليه وثياب ممزقة رثة وهو أعزل من السلاح وقد ألحت عليه الأمراض والعلل ، فسعاله لا ينقطع ودمعه لا رقأ .. وفى الممثلين طوائف لها صور وأجسام وليس لها إرادة ولا روح إذا تحركت أو ضحكت فإنها تفعل ذلك بمحض رغبتها وإرادتها بل لأن وراء الستار شخصا يحركها ويضحكها وذلك بواسطة حبل يمسكه بيده ويجذبه ذات اليمين فتتحرك ذات اليمين ، ويجذبه ذات الشمال فتتحرك نحو الشمال ثم يديره إدارة فنية فتقص تلك الصور وتلعب أو تضحك وتطرب ، ولم يكن إنقلاب النيجر حدثا مفاجئا بل يغلب عليه عدم الاستقرار السياسى على دول أفريقيا فالمستعمر دائما ما يريد إخفاء الحقائق حتى يصل إلى غرضه وغايته والنيجر هي إحدى الحقائق التي أراد الإستعمار ان يخفيها حتى يحتفظ بها حقلا للأستغلال والإستثمار ومصدرا للثراء والإنتفاع دون أن يحمل نفسه يوما على التفكير في مصير أهل هذه البلدان ومصالحهم ولكن غاب عن ذهن المستعمر حقيقة أيدتها التجربة و أثبتها التاريخ وهى أن الشعوب مها تعرضت للضغط أو الإرهاب ومها تحملت من تعسف وهوان فلا بد أن تنطلق في طريقها الطبيعى نحو الحرية والإستقلال محطمة الحواجز والعقبات فالحرية حتمية تاريخية لابد واقعة وإن تأجلت بعض الوقت لأى عامل وقد حصلت النيجر على على إستقلالها في الثالث من أغسطس عام 1960 وما يخشاه الإستعمار في أشكاله المختلفة أن يرى القارة الأفريقية صفا واحد متضامنا لعلمه ان الاتحاد إن شمل الدول الأفريقية فستولد عنه قوة وسوف يتعذر على الإستعمار مواجهة هذا الوليد الجديد ومن أجل هذا أراد الاستعمار أن يقسم أبناء القارة قسمين أحدهما يقطن شمال الصحراء الكبرى ، والآخر يقطن جنوب الصحراء والنيجر بصفة خاصة من الدلائل القوية على أواصر القربى بين الشمال والجنوب فهو بحكم موقعه على ملتقى الطرق الصحراوية كان محطة لقوافل التجارة ومن الشمال إنتقل إليه الإسلام واستقر به دينا واعتنقه أكثر من تسعين في المائة من أبنائه وغالبية أبناء النيجر من الطوارق وهم عرب يتكلمون العربية ويعتزون بها واغلبهم من عرب الشمال نزحوا إليه عن طريق مصر ولقد إعترف بهذه الحقيقة المؤرخون الأوروبيون أنفسهم والنيجر جغرافيا تقع في غرب أفريقيا في قلب الصحراء الكبرى وتشغل مساحة 1.279 كيلو متر مربع وتتوسط مجموعة من البلدان الإفريقية ففي الشمال الجزائر وليبيا وفى الشرق تشاد والغرب مالى وجنوبها الغربى نيجريا وكانت النيجر جزا من إمبراطورية إسلامية قديمة إزدهرت حضارتها وإشتهر ملوكها في القرن الثالث عشر الميلادى وعرفت هذه الإمبراطورية باسم "مالى " التي جاء ذكرها على لسان الرحالة العربى " بن بطوطة " إذن حضارة هذه البلاد قديمة و أن شعب النيجر والشعو الأفريقية الأخرى المجاورة له عرفت الحضارة قبل أن يعرفها الأوروبيون ذلك أن أوروبا كانت في هذا الوقت تعيش في عصور الظلام والتأخر وإذا كان هذا قديما فلم يكن إنقلاب النيجر محض صدفة في هذا التوقيت على الرئيس المنتخب " محمد بازوم " بالتزامن مع القمة الروسية الإفريقية في سان بطرسبورج وربما تكون أصوله العر بية جوهر الإنقلاب عليه حيث يمثل العرب أقلية في هذه الدولة الإفريقية وقد بدأ الصدام علنا ومباشرا بين فرنسا ممثلة في الوجود الغربى والمصارحل الغربية في مواجهة معادلات وحسابات القارة وروسيا التى تطمح من أجل إعادة تواجدها كقوة محورية إثر إنهيار الإتحاد السوفيتى وعلى التوالي تلقت فرنسا ثلاث ضربات قوية لنفوذها العسكرى والإقتصادى والثقافى في غرب أفريقيا مالى وبوركينا فاسو وأخيرا النيجر هذه الضربات الموجعة طالبت فصم العلاقات مع الإمبراطورية الفرنسية الإستعمارية فظهر الدب الروسى بقوته وبصورته المباشرة في التواجد ونظمت تظاهرات مؤيدة للإنقلاب في النيجر أما السفارة الفرنسية بالعاصمة نيامى أشعلت فيها النيران ورفعت العلم الروسى عليها وفى خضم الحوادث المتدافعة تبدت ذريعتان رئيستان الأولى تسوغ التصعيد في أزمة افريقية تتمثل في الدفاع عن الديمقراطية والشرعية والعودة إلى المسار الدستورى وقد تبنتها القوى الغربية والولايات المتحدة والإتحاد الأوروبى معا ، ولأسباب متباينه يتبنى الإتحاد الإفريقى الموقف فعندما نشأت في ستينيات القرن الماضى منظمة الوحدة الأفريقية التى تحولت فيما بعد إلى الإتحاد الإفريقى أقرت بضرورة عدم المساس بالحدود الإستعمارية خشية الدخول فى صراعات قبلية وعرقية بين دول القارة المستقلة حديثا ثم أقرت ضرورة عدم الإعتراف بالإنقلابات العسكرية خشية إجهاض التجارب الديمقراطية الوليدة ومن أجل المصالح الإستراتيجية جرى اللعب بالعناوين الديمقراطية فاستخدمت روسيا خطابا مقاربا بالدعوة إلى عودة الديمقراطية والعودة إلى المسار الدستورى بعودة الرئيس ولكنها تحفظت على أى تدخل عسكرى وكان ذلك بمثابة الدفاع عن حلفائها في غرب افريقيا والثانية ، تسوغ الإنقلاب بدواعى تغول الدور الفرنسي على مقدرات الحياة الداخلية في النيجر رغم استقلالها تارة باسم مكافحة الإرهاب وتارة أخرى باسم الإرث الثقافي الفرنكفونى المشترك وكلمة السر في اليورانيوم المخصب فسبعين في المائة من الكهرباء التي تنتجها المفاعلات النووية الفرنسية يستخدم فيها اليورانيوم المستخرج من النيجر فيما أن البلد نفسه " النيجر " يعتمد بنسبة مقاربة على ما يصله من نيجيريا لسد احتياجاته من الكهرباء ! وبعد الإنقلاب توقف تصدير اليورانيوم لفرنسا مما أغضب فرنسا فاستغلت نفوذها لدى المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا لمعرفة الختصار ب " إيكواس " لتسير فى طريق التدخل العسكرى بدعوى إعادة الشرعية إلى النيجر بما يعنى استعادة النفوذ الفرنسي العسكرى والإقتصادى والثقافى وقد أبدت دول أوروبية خشيتها من الأندفاع إلى حافة الهاوية واتخذت روسيا موقفا متوازنا متعمدا فدعت إلى عودة الرئيس المنتخب متفحفظة على العمل العسكرى وتحاول روسيا أن تكسب مواقع أقدام جديدة في القارة السمراء بكل الوسائل المشروعة وغيرها وأدوار " مجموعة فاجنر " حاضرة في المساهد المحتقنة فالإستعمار أرسى مبادئ تتجلى في المصالح الإستراتيجية قبل المبادئ والقيم تحكم قواعد التنازع الدولى على قيادة العالم .