نحن فى حاجة عاجلة لإعادة كتابة تاريخنا من جديد.. إن هذه ضرورة لا رفاهية.. إن للتاريخ علاقة بواقعنا اليومى..
للتاريخ علاقة برغيف الخبز وسعر السيارات وحالة الشوارع ومعدل الصادرات وأرباح السياحة.. ونيابة أمن الدولة العليا وكل خبر نطالعه يوميًا فى المواقع الإخبارية ونشرات الأخبار..
إن التاريخ ونظرتنا إليه ليس قضية فكرية ولكن قضية اقتصادية وتنموية وحضارية.. إنه قضية نخبة، لكن تأثيره أكيد على الجماهير العريضة.. إن تاريخنا، كما تصوره المناهج التى درسها مواليد السبعينيات والثمانينيات على الأقل، يبدو وكأن من كتبه عدو لمصر لا محب لها.. إنه يقوم على عبادة الماضى والذوبان فى حبه..
إن كل ماض لدينا هو جميل ومجيد ورائع.. وبالتالى يصبح كل حاضر سيئًا ومنفرًا ومضجرًا ويستحق الهدم..
بدايات تشكل الرأى العام فى مصر كانت فى عهد الخديو إسماعيل باشا «١٨٣٠-١٨٩٥» حلم الرجل بمصر قطعة من أوروبا، وفى عهده ظهرت الصحافة ومجلس النواب ومقهى متاتيا، حيث يجلس جمال الدين الأفغانى «١٩٣٨-١٨٩٧»...
انطلق الخديو إسماعيل فى مخطط لتحديث مصر، أنشأ عشرات الترع والرياحات وعشرات القناطر والسدود واكتشف منابع النيل وفرض سيادة مصر حتى أوغندا، ومنع تجارة الرقيق، وأسس مجلس النواب والأوبرا وقناة السويس، وبنى القاهرة الخديوية التى نفخر بها حتى الآن..
لكن السيد جمال الدين الأفغانى القادم من إيران والهند وأفغانستان رأى أن الماضى أفضل من الحاضر، وأن مصر التابعة للسلطان التركى أفضل من مصر المستقلة الناهضة، وأقنع عشرات المصريين أن ما يحدث فى مصر مخالف للإسلام..
وحدث خلط هائل بين مقاومة النفوذ الأوروبى على أساس وطنى، كما نادى محمد شريف باشا أبو الدستور الوطنى «شارع شريف مازال يحمل اسمه» وبين كراهية الأجانب على أساس دينى، كما علم الأفغانى المصريين...
شكل الأفغانى تنظيمًا سريًا لاغتيال الخديو وسادت المجتمع حالة من البلبلة منعت المصريين من الفرح بالإنجازات الكبيرة التى تمت..
وتدخلت القوى الأجنبية لعزل الخديو إسماعيل، أحد أعظم حكام مصر فى العصر الحديث، ثم استغلت إنجلترا حالة التعصب الدينى ضد الأجانب لتحتل مصر عقب أحداث دامية ضد الأجانب فى الإسكندرية..
الكارثة أننا فى المناهج الدراسية درسنا التاريخ بطريقة مغلوطة.. درسنا التعصب على أنه وطنية، ودرسنا الإنجاز على أنه خيانة، ودرسنا تحديث مصر على أنه تسليم البلد للأجانب، ودرسنا أفكار الإخوان الإرهابيين على أنها صحيح الوطنية المصرية..
والسبب أن الإخوان احتلوا التعليم فى مصر منذ ثورة يونيو ١٩٥٢وحتى ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣ تقريبًا.. ولا أعرف هل تم تطهير المناهج من هذه الأفكار التى تعوق التقدم أم لا..
لقد فتك الرئيس عبدالناصر بجناح حسن الهضيبى فى جماعة الإخوان لأنه تحدى سلطته، لكنه احتضن جناحًا آخر فى الجماعة ومنح أعضاءه مناصب فى الأوقاف والتعليم وجميع وزارات الدولة..
بل إنه عيّن كمال الدين حسين، أقرب الضباط لفكر الإخوان، وزيرًا للتربية والتعليم والنتيجة هى كل هذا الخراب الذى نراه الآن..
إن عقلنا سلفى بامتياز والسلفية هى عبادة «السلف» والسلف هم الأجداد أو الأجيال الأقدم منا.. إننا نؤمن بحديث «خير القرون قرنى ثم الذى يليه ثم الذى يليه» وهذا صحيح فى أمور الدين، لكنه مستحيل أن يكون صحيحًا فى أمور الدنيا..
مستحيل أن يكون السفر بالناقة أفضل من السفر بالطائرة، أو أن يكون السكن فى الخيمة أفضل من البناء الحديث، أو أن يكون التداوى بلسع النحل أفضل من الدواء الحديث..
لكن عقيدة عبادة الماضى هذه تسللت إلى عقولنا لتفسد علينا حياتنا.. إن بعضنا منبهر بالمصريين القدماء دون أن يسعى للأخذ بأسباب الحضارة كى يكون جديرًا بهم.. وقد أدت مناهجنا لأن ننخرط فى حلقات مستمرة لجلد الذات واحتقار الحاضر دون أسانيد موضوعية..
إن هذا الإحساس يصيب الشعوب باكتئاب جماعى ويدفعها للانتحار..
فى عام ٢٠٠٧ أنتجت المملكة العربية السعودية مسلسلًا عن الملك فاروق «أفشل حكام مصر فى تاريخها الحديث» وأشعل المسلسل غريزة عبادة الماضى لدى المصريين وسادت حالة من احتقار الواقع، وشعرت دوائر السلطة وقتها بالخطر.. وسعت للرد على ما جاء فى المسلسل بطرق مختلفة..
كان المسلسل مليئًا بالتضليل، لكن غريزة عبادة الماضى ضاعفت من تأثيره..
لقد رأى المصريون فى السبعينيات أن عهد الرئيس ناصر كان أفضل بكثير من عهد الرئيس السادات، ولم يكن هذا صحيحًا على إطلاقه.. ودفعهم الغضب لحالة من عدم الاستقرار استغلها الإرهابيون فى اغتيال السادات، رحمه الله.. ثم تولى الرئيس مبارك لمدة طويلة للغاية..
ولم يتوقف المصريون يومًا عن مقارنته بكل من عبدالناصر والسادات، ولم يتوقفوا عن الشعور أن الأمور أيامهما كانت أفضل، وأن مؤهلاتهما كانت أعلى بكثير من مؤهلاته كسياسى..
ولم يكن هذا دقيقًا، ولكن كان هناك فرق أجيال وتكوين ثقافى وسياسى لا دخل للعوامل الفردية فيه.. ودفعت هذه الحالة من عدم الرضا ومن عبادة الماضى «الناصرى والإسلامى واليسارى والليبرالى وأى ماضى والسلام»! الناس للخروج وتحطيم كل شىء فى يناير.. مرت البلاد بحالة صعبة، وثار الشعب ثورته المجيدة فى ٣٠ يونيو، وتقدمت القوات المسلحة لتحمى كيان الدولة، وانخرطنا فى مخطط تنموى جسور وشجاع ستظهر آثاره فى المستقبل القريب والبعيد.. لكن لعنة عبادة الماضى تطارد بعضنا.. لأنها مزروعة فى عقولنا منذ الصغر..
وهى حالة يحاول أن يستغلها بعض أصحاب المصالح.. بعضهم يترحم الآن على الماضى الذى لعنوه وداسوه بالأقدام وسعوا للتخلص منه.. لأنهم كانوا يرون أن من سبقوه أفضل منه... واللعنة.. أننا كلما جاءنا حاكم أعمينا أعيننا عن رؤية ما يقوم به..
وقارناه بسابقه.. وانحزنا لأوهام الماضى ونوستالجيا الزمن الجميل.. ثم نسعى لهدم الحاضر.. ثم بعد فترة نكتشف أن الحاضر الذى أصبح «ماضيًا» كان جميلًا جدًا ورخيصًا جدًا وعظيمًا جدًا..
فنسعى لهدم «الحاضر» الحالى أو على الأقل التقليل منه... إلخ إلخ دون أن ننتبه أن المجتمع هو الذى يتدهور بسبب زيادة السكان وثبات الموارد وانعدام التنافسية.. إلخ..
عبادة الماضى حالة عقلية تحولت إلى لعنة.. لن نتقدم إلا بالخلاص منها.. وهذه مهمة صعبة جدًا...