بحكم تكويني وتربيتي في مدينة الفنون والثقافة ، مدينة الكتاب والفلسفة ( الإسكندرية ) ، لا أحب للموسيقى العربية أن تلبس طربوشا ، كما لا أحب لها – أيضا - أن تلبس قبعة إفرنجية ، لكنني مع نظرية التأثير والتأثر ، ليس في الموسيقى فقط ، ولكن في كل العلوم والفنون والآداب ، والاستفادة من المنجز الموسيقي لدي الشعوب كافة ، مع الحفاظ على الهوية الخاصة بالموسيقى المصرية ، والملامح المحددة لها.
إذ للمدرسة المصرية في الموسيقى سمات وصفات لا ينكرها أحد ، حيث إنها جزء أساسي لا يتجزأ من الثقافة المصرية منذ أزمنة سحيقة في التاريخ المصري القديم ، باعتبار أن الغناء جزء أصيل في تركيبة الشخصية المصرية ، وقد حددتها دراسات أكاديمية عديدة وغير أكاديمية ، ولعل اقترابي لسنوات طويلة من الموسيقار محمد عبد الوهاب جعلني على صلة بمشكلاتها والتحديات التي تواجهها ، خصوصا بعد خسارتنا بالموت لعدد من الرموز الرائدة في مجال الموسيقى والغناء خلال الخمسين سنة الماضية على الأقل مثل : محمد عبد الوهاب ، بليغ حمدي ، كمال الطويل ، رياض السنباطي ، محمد الموجي ، سيد مكاوي ، فريد الأطرش ، ومن قبلهم : محمد القصبجي ، زكريا أحمد ،...
وهذه المشكلات هي ما جعل الموسيقى المصرية لا تصل إلى العالمية إلا في حدود ضيقة وفردية ، إذا ما قورنت بموسيقى شعوب أخرى ، خصوصا إذا عرفنا أن الموسيقى متجذرة في الأرض المصرية ووجدان شعبها منذ بدء حضارة المصريين القدماء أصحاب الحضارة والسبق في مجالات عديدة ومن بينها الموسيقى التي هي معيار الرقي والتقدم ، والدالة على علو رفعة مصر القديمة .
كما أن صناعة الموسيقى في مصر تواجهها مشكلات ومعوقات كثيرة وينبغي العمل على إيجاد حلول لها للنهوض بهذه الصناعة ، لأن تلك الصناعة لا تقل أهمية عن صناعة السينما ، ولعل الانتكاسة التي واجهت صناعة السينما وما تزال تواجهها هي نفسها وربما أكثر ما تواجه صناعة الموسيقى والتي يعمل بها كثيرون ، في الكتابة والتلحين والعزف والإنتاج .
فغياب " الفيلم الغنائي " – مثلا - بأغانيه القصيرة الذي ظهر الأربعينيات قد ترك فراغا كبيرا في المشهد الموسيقي والغنائي بمصر ، وقد اضطلعت به أسماء مهمة مثل : محمد عبد الوهاب ، وأم كلثوم ، وفريد الأطرش ، وأسمهان ، ومحمد فوزي ، ومنير مراد ، وليلى مراد ، ونور الهدى . وفي مرحلة تالية عبد الحليم حافظ ، ونجاة ، وشادية وسواهم .
ففي بلد شهد بناء دار الأوبرا المصرية بأمر من الخديوي إسماعيل في وقت مبكر ( سنة 1869ميلادية ) ، كان من المفترض ألا تواجه موسيقاه وأغنياته أية مشكلات ، وأن يستمر في ريادته ، وتطوير وتجديد موسيقاه بالشكل الذي رسمه له الرواد في النغمة والكلمة .
فللموسيقى المصرية - منذ القدم - فضل غير منكور على تطور الموسيقى وانتشارها في ربوع الأرض ف«هيرودوت» المؤرخ الشهير يسجِّل أن الموسيقى والأغاني المصرية التي سمعها صارت فيما بعد ألحانا شعبيةً في اليونان يرددها الناس في كل مكان، وذكر أن «أفلاطون» - الذي عاش سنوات في منطقة الأزاريطة بالإسكندرية – قد نصَّ ( في مؤلفاته أن الشعب اليوناني عليه أن ينتقي من الموسيقى المصرية ما يشاء إن أراد الاطلاع على فنون الآخرين لما فيها من عناصر فنية وأخلاقية وتربوية على عكس موسيقى الشعوب الأخرى ).
وعلى الرغم من أن المكتبة المصرية تحفل بكتب متنوعة ومهمة عن الموسيقى وتاريخها فإن حال الموسيقى لا يقارب التأليف عنها ، حيث يسبق القلم الريشة ، وهو أمر محزن بل مخجل ، جعل موسيقارا مثل محمد عبد الوهاب لا يتفاءل بمستقبل الموسيقى المصرية إلا وفق شروط وظروف وضعها وحددها بدقة وهو صاحب التجربة والخبرة الكبيرة ، كان من أبرزها غياب التأليف الموسيقي الذي لا يصاحبه غناء : ( وقد بلغ عدد مؤلفات عبد الوهاب من أعمال الموسيقى البحتة نحو خمسين قطعة موسيقية على مدى أربعة عقود ، استخدم فيها طرقا وأساليب مختلفة وعُرفت جميع تلك القطع بأسمائها التى وضعها لها ، وإلى جانب ذلك قدم عشرات من المقدمات والمقاطع الموسيقية الطويلة فى أعماله الغنائية يمكن أن تُعدَّ موسيقات مستقلة بذاتها ) ، فنحن نلحظ في عالم التأليف الموسيقى ، نقصا في المشتغلين به ، وكذا في رواجه وانتشاره بين الناس ؛ وذلك بسبب سطوة ثقافة الغناء لدي الناس كافة ، وكذلك غياب التجديد والتحديث ، والثقافة ، واختفاء الكلمة الجادة واللحن الفريد الخاص ، التجرؤ والادعاء والزعم ، وكشف الزيف ، وهذا غير جائز في أمور تلعب فيها الموهبة فقط الدور الأول ، فعبد الوهاب كان يتأذَّى كثيرا من طرد العملة الرديئة للعملة الجيدة ، وعندما أعرف أن هناك ما يزيد على ثلاثمائة شركة مصرية في مجال الغناء قد أغلقت أبوابها ، وتحولت إلى ممارسة أنشطة أخرى ، لا يمكن للمرء أن يكون متفائلا بحال الغناء المصري ، خصوصا بعد اختفاء شريط الكاسيت ، وقرصنة الأغنيات ونشرها في شبكة الإنترنت ، إضافة إلى أن السلفية الدينية قد ضربت قواعد المجتمع المصري ، ونشرت فيه وأشاعت عبر رموزها أن الموسيقى والغناء حرام وأنهما مفسدة ، وهذا كلام مردود عليه في كثير من الكتب والمقالات ، كأننا نعيش في العصرين المملوكي والعثماني فابن خلدون في مقدمته ذكر أن ( أول ما ينقطع في الدولة عند انقطاع العمران صناعة الغناء ) ، وللإمام أبوحامد الغزالي كتاب “ آداب السماع والوجد ” ، كتبه في مدح الصوت والموسيقى .
ويكفي أن نقول إن الخليفة المأمون إن إسحق الموصلي أكثر دينا وعلما وعفافا ومروءة من بعض كبار القضاة والعلماء، وقيل إنه لولا شهرته في الغناء لصار من القضاة في عصره لشدة تمسُّكه بالعدل وكان يدخل مجلس الخلافة مع الفقهاء قبل أن يدخله مع المغنين والملحنين.
وعندي أن أهمية الشعوب تقاس بما ألَّفُوه من موسيقي وغناء .
د.لوتس_عبدالكريم