لا أظن محمد إبراهيم أبوسنة قدم آخر ما لديه من إبداع ؛ حينما عنون أحد دواوينه بعبارة:(ورد الفصول الأخيرة) ..فصفة"الأخيرة" التي وسم بها "فصوله" تلتصق أشد التصاق بحال إنسانية وقومية ووطنية عامة ؛ لا بحالة إبداعية خاصة.
فأبوسنة تيار شعره متدفق؛ لا يكاد يعتريه جندل..والجالس بين يدي ديوانه هذا يرى اتقاد عاطفة ؛ وعمق شعور؛ وامتلاء نفس بنبض الإنسان والثرى والشجر والنخل والنجم والشجر والبحر ..تسبح جميعا في غلالة من شجن دفين ؛ وغير قليل من تشاؤم ..ابتداء من قصيدة (حوار مع الصمت) الكاشفة عن مخالب الحصار الذي يعيشه الإنسان - كفرد وجماعة - وهو مهزوم مأزوم ..تكاد تقع داخل تخوم الوضع العربي الراهن ؛ وضياع فلسطين وغيرها من أرض العرب.
ثم القصيدة التالية:(وحده الشاعر يبكي) التي تكاد تبدو تخصيصا للمعاني العامة التي وردت في القصيدة السابقة عليها. . فهناك كمد وحزن ويأس للإنسان بعامة .. هنا تنحصر الأزمة في الشاعر وحده ..لأنه يختص - دون غيره من البشر - بالإحساس!:
وحده الشاعر يبكي
في جحيم الكلمات
وسط دغل
من أساطير تداعت
ويختص - دون غيره - بمعرفة طبائع الأشياء وأبعادها وجوهرها:
وحده الشاعر "يدري"
أن ما كان نضيرا..
مثل تفاح البنات
قد غدا مثل
يباس الصحر
وينفرد الشاعر - دون غيره - بالسعي إلى الأمام؛ إلى التقدم ؛ لا الجمود ولا التراجع :
وحده الشاعر يمضي
في اتجاه اللحن
يسقي دوحة الأيام
نهر العبرات
والحزن - وربما اليأس - لدينا له تاريخ وجذور وسوابق ؛ وله دوافع ومبررات وحجج .. فهاهي ذي (بكائية إلى أبي فراس الحمداني) تلخص مصيبة العرب ؛ بعد أن ..
مالت بنا شمس الغروب
إلى الكآبة
فمازال "بحر الروم " يحاصرنا - ومن وراءه- وإن حمل اسما آخر ..ومازال أبوفراس - الشاعر - غريبا في وطنه ؛ مادام يضم بين فكيه لسانا محصنا صادقا ؛ وبين جنبيه قلبا غير هياب للملوك والجبابرة ؛ وبين أصابعه قلما لم تسل منه سوى أحرف الحقيقة.
فالحصار العام الذي يعيشه الوطن ؛ والحزن المتسع الذي يحياه الإنسان على أرضه في (حوار مع الصمت) تستبين دوافعه بالقصيدتين التاليتين :(وحده الشاعر يبكي) و(بكائية إلى أبي فراس الحمداني) .. فهمه الوطني وحزنه كله وضياعه تجسد في حياة الشاعر ؛ لا أي شاعر؛ بل النموذج الحر الأبي : أبي فراس.. فكأن القصائد الثلاث فصول في مأساة واحدة ؛ تتضح معالمها وأبطالها شيئا فشيئا ؛ حتى تبدى لنا في الخاتمة التراجيدية:
سرب من الغربان
ينعق
فوق تاريخ
مهان
أمم تساق إلى مصائرها
يسابقها الزمان
فتنطوي
حتى لينكرها الزمان
ويتلقى تيار الحزن دفقة جديدة مع (سؤال في الموت) المهداة إلى فؤاد كامل .. ولا تغيب عنها الأرض والنجوم والأوراق ؛ على الرغم من هيبة الموت وعنفوان هجمته ..ولا يغيب عنها الطامعون والخانعون ..فهذي حياة لا تستوعب أبافراس ؛ ولا فؤاد كامل ؛ ولا يتكيف معها أبوسنة ؛ ولا يستطيع أن يغيرها ؛ فيحزن ويتشاءم!!
وربما أفلتت لحظات أمل مضيئة في بهيم اليأس :
عل جذرا
يتلوى
تحت نار الشوق
ينشق
فتخضر على الأرض الموات
كل أغصان الأماني
ومن هنالك يتألق :
أمل بعيد
يمشي على جثث الفصول
يمشي يراقص نفسه
يرنو إلى زهر الحقول
أمل صغير راقص
أمل عليل
وبعد أن أضحى الأمل عليلا ؛ سوف يضحي وحيدا ..ثم يستولي التشاؤم مرة أخرى على الشاعر ؛ فنرى الأمل:
يمشي وحيدا في الحقول
يمشي فيفجؤه المغول
أمل قتيل !!
ومازال الأمل والإشراق نقطة بيضاء وسط حلكة ؛ أو قطرة مطر وحيدة تشتتها عاصفة ..فإذا ما بدا طيف أمل في (ورد الفصول الأخيرة) كان في مؤخرة قصيدة مقبلا على استحياء أو عليلا - كما رأينا - أو يقتل بمجرد بزوغه ..لكن هذه المرة في قصيدة (رجل وحيد يضحك في الليل) :
الضحك ..يسيل
من الأشياء
الرجل وحيدا
يضحك حتى فر الليل
تراجعت الأفعى
انفسح الكون
انبلج نهار
يضحك
في شمس ضاحكة
بيضاء
*
( أصالة )
"يتبع"